أصبحت تذاكر السفر من فئة الدرجة الاقتصادية البسيطة جزءا لا يتجزأ من تقديمات شركات الطيران الأمريكية، وهو نهج استحسنه بعض المسافرين، وامتعض منه البعض الآخر.
تعرض الشركات تذاكر بأسعار مخفضة للمسافرين الذين لا يكترثون إن كانت تذاكرهم لا تغطي الحقائب أو بعض الخدمات على متن الطائرة، مثل حجز مقعد بشكل مسبق دون مقابل، أو الاستمتاع بمشروب غازي على ارتفاع 9000 متر.
تطرح هذه التذاكر زهيدة الأثمان وشديدة البساطة وسيلة تسعير مبتكرة، كانت شركة طيران “دلتا” أول من اعتمدتها قبل نحو عقد، بهدف التصدي للتوسع الحاد لبعض شركات الطيران منخفض الأسعار، مثل “سبيريت إيرلاينز” ومجموعة “فرونتيير” القابضة.
إلا أن هذه العروض ما عادت مجرد خطوات دفاع، فقد باتت تعتمدها اليوم كبرى شركات الطيران الأميركية بغية استقطاب مسافرين يعلقون أهمية كبرى على السعر، وهم عادةً ما يسافرون مع شركات طيران ناشئة ميزتها تقديم تذاكر بأسعار مخفضة جداً تتيح للمسافرين مقعد فقط دون أي خدمات أخرى.
في ظل النجاح الذي تحققه كبرى الناقلات الجوية التقليدية، والارتفاع الكبير في التكاليف في القطاع، باتت شركات الطيران الصغيرة ملزمة بالقيام ببعض التغييرات، حتى أن بعض الشركات منخفضة التكلفة قد تواجه تحدياً وجودياً.
كفاح للاستمرار
قال الرئيس التنفيذي لشركة “يونايتد إيرلاينز” سكوت كيربي في مقابلة مع تلفزيون “بلومبرغ” في 3 يونيو إن “كل الشركات التي لديها هوامش أقل منا تتعرض لخسائر مالية في جزء كبير من شبكة مساراتها الجوية… تخسر الناقلات منخفضة الأسعار، بالأخص الناقلات ذات الأسعار شديدة الانخفاض، كثيراً من المال. هذا نموذج عمل به عيوب فادحة، وأعتقد أن (هذه الشركات) ستضطر للكفاح من أجل التمكن من الاستمرار”.
يُعد كيربي أحد أشد منتقدي شركات الطيران منخفضة الأسعار، ويرى أنها وقعت ضحية تغيير هيكلي دائم في القطاع، ناجم جزئياً عن إلغاء معظم شركات الطيران الكبرى للرسوم التي كانت تفرضها على تغيير الحجوزات في كافة أنواع التذاكر، والتي كانت تدفع في السابق ببعض المسافرين نحو الشركات المنافسة منخفضة الأسعار.
أمّا التغيير الثاني، فهو طرح تذاكر من فئة الدرجة الاقتصادية البسيطة بأسعار مقاربة لثمن التذاكر التي تقدمها الشركات منخفضة الأسعار، وهي تخضع لقيود مشابهة، منها عدم السماح بأي تغيير في الحجز، أو باختيار المقعد مسبقاً، بالإضافة إلى أن أصحاب هذه التذاكر آخر من يصعد إلى الطائرة، مع ذلك فإن هذه الشركات تقدم برامج أميال موثوقة، وغالبا ما تكون الخدمات أفضل على متن طائراتها.
اكتسب سلاح التذاكر من فئة الدرجة الاقتصادية البسيطة مزيداً من التأثير حين اعتمدته شركة “يونايتد” في طائرات أكبر حجماً، ما ساعد على خفض التكلفة التي تتكبدها مقابل تقديم هذا السعر عن المقعد الواحد، ومكّنها من توفير مزيد من المقاعد من هذه الفئة على رحلاتها.
وقد وصف المدير التجاري للشركة أندرو نوسيلا هذه الفئة من التذاكر بأنها “أداة تنافسية بالغة الأهمية”، وتكتسب زخماً متنامياً، فقد ارتفعت نسبة مبيعات “يونايتد” للتذاكر من الفئة الاقتصادية البسيطة بواقع 35% في الربع الأول من العام، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
من جهتها، رفضت “دلتا” التعليق على استخدامها الحالي لتذاكر السفر منخفضة السعر، فيما قالت شركة “أميريكان إيرلاينز” في يناير إن حوالي 7% من مبيعاتها كانت من الدرجة الاقتصادية البسيطة، بارتفاع بنسبة 20% مقارنة بالعام الماضي.
ارتفاع التكاليف
إلا أن أكبر ثلاث شركات طيران أميركية تحقق أرباحها بشكل أساسي عبر تشجيع الزبائن الذين يبحثون عن التذكرة الأرخص، على شراء تذكرة أغلى تنتمي إلى الفئة التي تليها مباشرة على الأقل. فقد حققت “أميريكان إيرلاينز” 10% من إيراداتها هذا العام من زبائن يقبلون على ذلك، بزيادة بواقع 35% مقارنة مع 2023.
إلا أن الشركة رفضت الإفصاح عن معلومات أحدث حول مبيعات تذاكر الدرجة الاقتصادية البسيطة.
وبرغم القيود المفروضة على هذه التذاكر، يمكن للمسافرين في الدرجة الاقتصادية البسيطة على متن كبرى شركات الطيران أن يستفيدوا من برامج الولاء، ويحصلوا على مشروبات غير كحولية ووجبات خفيفة مجانية، 2والاستمتاع بحيز أرحب للساقين كالذي يتوفر في مقاعد الدرجة الاقتصادية العادية.
رأى دان ماكون، مسؤول قطاع السفر والنقل في الأميركتين لدى شركة “إل أي كي” (.L.E.K) الاستشارية في إقدام “يونايتد” و”أميريكان إيرلاينز” و”دلتا” على طرح تذاكر سفر بنفس أسعار أرخص التذاكر التي تقدمها شركات الطيران منخفضة الأسعار، بالإضافة إلى قدرتها على تعديل عدد المقاعد الرخيصة المباعة في كل رحلة، “ابتكاراً فتاكاً” في وجه الشركات المنافسة منخفضة الأسعار.
إن الإفراط في الاعتماد على التذاكر الرخيصة جداً الذي أتاح للناقلات الجديدة اقتحام النادي الحصري لشركات الطيران التقليدية، أصبح عبئاً ترزح تحته شركات الطيران منخفض التكلفة التي بنت نموذج أعمالها على هذا المنطلق.
قالت سافانثي سيث، المحللة لدى شركة “رايموند جيمس” إن الشركات منخفضة الأسعار التي تعتمد على إبقاء نفقات تشغيلها متدنية، ارتفعت تكاليفها غير النفطية للمقعد الواحد بنسبة 30% منذ 2019، مقارنة مع 20% لدى شركات الطيران الكبرى.
وتواجه شركات مثل “فرونتيير” و”سبيريت” صعوبة أكبر في تحميل هذا الزيادة في الأسعار لعملائها غير المستعدين لدفع أسعار أعلى. في غضون ذلك، أبقت زيادة سعة السوق المحلية على انخفاض الأسعار، ما يحدّ من مكاسب الشركات منخفضة الأسعار برغم ارتفاع الطلب إلى معدلات قياسية هذا الصيف.
في غضون ذلك، تستمر الناقلات الأكبر في التوسع نحو سوق السفر الاستجمامي التي كانت تهيمن عليها في السابق منافساتها من الشركات الأصغر منخفضة الأسعار.
سياسات جديدة
قال ساموئيل إينغل، الرئيس السابق لشؤون الطيران في الشركة الاستشارية “آي سي إف” (ICF) إن هذه التكاليف العالية أصبحت حالياً الهمّ الرئيسي لشركات الطيران منخفضة الأسعار، “لكن الأمر ما كان ليؤثّر لهذا الحد لو لم تكن الشركات التقليدية تحقق نجاحاً كبيراً في خطف العملاء منها… إن ترافق الأمرين معاً يطرح تحدياً صعباً جداً”.
في غضون ذلك، تغير الشركات ذات الأسعار شديدة الانخفاض بعض الأمور لتستقطب زبائن أقل اكتراثاً للسعر، وتحسين سمعتها بأنها تفتقر لخدمة زبائن جيدة، حيث يتذمّر منها زبائنها عبر الإنترنت، ويستهزئ بها مقدمو البرامج الليلية الساخرة.
طرحت “فرونتيير” مثلاً سياسات جديدة، مثل ضمان إبقاء المقعد الوسطي إلى جانب مقعد العميل فارغاً مقابل تكلفة إضافية، كما قدمت باقات عروض تتضمّن حقيبة يد والحق باختيار المقعد مسبقاً إلى جانب التذكرة من الدرجة الاقتصادية البسيطة التي تستوجب دفع مبالغ إضافية من أجل الحصول على أي خدمات أخرى.
أمّا “سبيريت” التي رفضت طلب إجراء مقابلة، فقد أزالت كافة الرسوم المفروضة على تغيير الحجوزات أو إلغائها، وزادت الوزن المسموح به للحقائب غير المحمولة.
قال رئيس “فرونتيير” التنفيذي باري بيفل: “الرسالة التي نوجهها إلى المستهلكين هي أنكم لطالما وثقتهم بنا لنقدم لكم أرخص سعر، والآن نقول لكم إننا نقدم أرخص سعر إجمالي بغض النظر عن كافة الخيارات الأخرى التي ترغبون بها”.
وبيّن بيفل إن “فرونتيير” بدأت بدراسة التغييرات التي يمكن أن تعتمدها قبل نحو عام حين ارتفع عدد الركاب الذي يشترون تذكرتها البسيطة دون أي خدمة إضافية إلى حوالي 50%، بعد أن كانت هذه النسبة 30% في السابق، وذلك بعد أن رفعت الشركة بشكل كبير تكلفة الخدمات التكميلية التي كان تدرّ لها معظم إيراداتها تاريخياً.
يعني ذلك أن أكثر من 80% من المنتجات والخدمات التي كانت تقدمها لقاء مبلغ إضافي، مثل اختيار المقعد مسبقاً أو حقيبة اليد، ما عادت تُباع.
اضطرابات مالية
تعليقاً على ذلك، شرح رئيس مجلس إدارة “فرونتيير” ويليام فرانكي، الذي يُعد من روّاد نموذج الأسعار شديدة الانخفاض، أن التغييرات التي تبنتها الشركة تأتي ضمن “استراتيجية تسويقية لضمان اطلاع الزبون على العرض الأحسن وشراء المنتج الأحسن، فنحن لا نحيد عن مبدأ أن السعر الأدنى هو الأفضل”.
وكانت شركتان ناشئتان هما “أليغيانت إيرلاينز” (Allegiant Airlines)، تابعة “أليغيانت ترافل” (Allegiant Travel)، و”بريز إيروايز” (Breeze Airways) سبق أن طرحتا باقات عروض خاصة بهما.
تكثر الأدلة التي تشير إلى أن الشركات منخفضة الأسعار تواجه اضطرابات مالية.
تعمل “سبيريت” مع حملة السندات على إعادة هيكلة ديونها لتتجنب الإفلاس، الذي أصبح وارداً عقب انهيار صفقة لتستحوذ عليها شركة “جيت بلو إيروايز” في مارس.
كما أجّلت الشركة استلام طائرات جديدة لتحافظ على سيولتها النقدية.
كانت القيمة السوقية لـ”سبيريت” انخفضت 90% منذ بداية 2021، فيما انخفضت القيمة السوقية لكل من “أليغاينت” و”فرونتيير” بنسبة 78% و72% على التوالي. وتوقع المحلل لدى شركة “سيبورت ريسرتش” دانيال مكنزي أن تدفع القواعد الاتحادية الجديدة المتعلقة باسترداد المبالغ المدفوعة لحجوزات التذاكر بشركات عديدة منخفضة الأسعار إلى الإفلاس بما أن وضعها هش جداً أصلاً.
إلا أن رئيس “سبيريت” التنفيذي تيد كريستي أكد في الاجتماع السنوي للمساهمين في 7 يونيو، أن الشركة لا تفكر في إشهار إفلاسها حالياً، وتعمل على إصلاح ميزانيتها وإحداث “تحول” في نموذج أعمالها.
مع ذلك وبرغم الصعوبات التي تواجهها شركات الطيران منخفضة الأسعار، يرى المحللون والاستشاريون أن الطلب عليها سيبقى كافياً من زبائن يفضلون دفع أقل سعر ممكن لتذكرة السفر، وغالباً ما يسافرون بحقيبة ظهر فقط.
قالت سيث من “رايموند جيمس”: في نهاية المطاف، ستظل (فرونتيير) أكثر قدرة من (يونايتد) على المناورة على صعيد الزبائن المهتمين بالسعر… قد تكون (يونايتد) قادرة على تخصيص مقاعد لهذه الفئة أكثر مما مضى، إلا أن (فرونتيير) ستبقى في كثير من الحالات الخيار الأفضل للزبائن المهتمين بالسعر”.